قصيدتان لأندريه فلتير | ترجمة عن الفرنسيّة

أندريه فلتير

 

حدود

مَنْ وعد بأرض الميعاد؟

كان الله يحمل أكثر من شِعارٍ في خُرْجِ نبوءاته،

وأكثر من حلمٍ بديلٍ عن اللبن والعسل.

لعنة الحداثة هي الّتي فرضت الحدود والحواجز على آفاق البداوة،

آفاقٌ كانت القوافل تستعيرها كما يحلو لها، بإيقاعها الخاصّ، وعلى مسؤوليّتها أمام خطرٍ مُحَقّق،

وإن بحرّيّةٍ حرّة.

كانت للأسوار والأسيجة نكهة التحدّي والاستنفار،

نكهة ذاكرةٍ مجهولة.

كنّا ننطلق بخرائطَ غير مؤكّدةٍ، كلّها ممكنات.  

الصحراء وكوخ الإجازات.

الكمين والسهوب.

العلوّ والعطش.

الدوار والسهل.

نطاقاتٌ بلا حرسٍ ولا عراقيل، ممرّاتٌ متروكةٌ للحجيج والرحّالة والمتمرّدين،

أقفارٌ تقفر حتّى تلمس الأحلام والسماء.

وعلى الهوامش يختطّ القلب وَثَباتِه.

مذ ذاك الحين تحتلّ الحدود المركز والضفاف، تخترع لنفسها المواعيد فوق فائضٍ من الأطلال،

تخرج من كلّ صوبٍ كالأرسان حتّى تخنق أدنى رغبةٍ في البَراح،

وأضأل نأمةٍ للأنفاس

وكلَّ حياةٍ داخليّة.

يبدو أنّ قانون الدول هو الردّ المفزع على الخوف الّذي يسكن حواضر المقيمين.

فتتكاثر البلدان الحبيسة.

وتتشبّث بحدودها.

وتراقب.

وتقمع.

وتقتل.

قانون الدول أسوأ ضروب الاحتيال.

والبلدان المنسيّة تهلك في غبار المنفى، في معسكرات الوحل،

في لا حيثيّة جرحٍ قديم.

تستبدل بالحسرة الانتقام، وبالأسطورة البرنامج، وبالعبوديّة العبوديّة،

وفي ساعتها الرمليّة جرعة السمّ تعادل جرعة الأمل.

لأنّ الحدود تقوم في الخارج فهي تقوم في الداخل.

تقوم الحدود على الأرض وفي الأذهان كما لم تقم من قبل.

ما كانت قدرتها على الخنق بتلك الضراوة.

بذاك العمى.

بتلك الدمويّة.

ولا كانت شبكاتها بهذا الضيق.

بهذه اللزوجة.

بهذا الخرف.

لأنّ الحدود تقوم وتتجدّد

إذ تقبض أجرتها من المليشيات والكهنة والعشائر.

لكلّ جدارٍ مهدومٍ، كم من عزلات طُوّقت بسلكٍ شائك؟

كم من أممٍ أُعيد إحياؤها بالجفت، فاستحالت على الفور مقابرَ جماعيّة؟

ذاك هو الصراع النهائيّ الجديد.

الكلّ ضدّ الكلّ.

الأخ ضدّ الأخ.

الجار ضدّ الجار.

الله ضدّ الله.

مَنْ وعد بأرض الميعاد؟

الأصل الفرنسيّ.

 

 

النائمون

(مهداة إلى مارك جيرونتون)

النوم سفينةٌ تحفظ عجيج البحر في الداخل، والسماء في الداخل، والزرقة اللانهائيّة للبحر والليل الّذي يحلم.

وضعوا رؤوسنا على رمال، وضعوها على أشواك، على أرضٍ قاسيةٍ محمّلةٍ بالروائح، رؤوسنا الّتي من موتٍ أو من جنون، رؤوسنا الّتي من خواءٍ ومن حياة.

لبس الزمن قناعه اليوميّ، وعلى الجلد حصادٌ من الأكاذيب، شبكةٌ من العلامات السوداء يسيل من معناها دم الذاكرة قطرةً فقطرة.

أمّا الرمل، فهو يتذكّر غابةً بلا حدودٍ بها علّيقٌ وفُرْجات، نيرانٌ من السراخس، من الرعد، بلّوراتٌ من الأساطير.

أين تذهب رؤوسنا الّتي بلا عقل، بمحاذاة أيّ غياب، منفيّةٌ عن أيّ أجساد؟

إنّها تطفو فوق ظلالٍ كأنّها أنويةٌ من العدم،

أنويةٌ جوفاء، منزوعة اللبّ، تنجو من الغرق كي تدلف بلا خوفٍ إلى ضياعٍ ناشف، إلى حالة الأرواح المهجورة.

لم يبق من الراقدين إلّا ورق الجرائد، بعض الفزع المكرمش على أفواهٍ مقفلة.

يمحو النوم كلّ أثر

وكذلك قبورنا.

الأصل الفرنسيّ.

  

* أندريه ڤلتير: وُلد عام 1945 بمنطقة الآردين في فرنسا، واكتسب حبّ السفر منذ طفولته، حين سافر مع عائلته إلى أوروبّا والشرق الأوسط، وزار التبت والصين وأفغانستان، فصاغ لنفسه فكرة عن "عالميّة" الشعر وتعدّد أصواته، يمارسها في كتاباته، وعلى الأخصّ في محاولاته لتدشين شعريّة "شفهيّة" جديدة، إذ ينشر أشعاره لا في الكتب وحسب، بل على أسطوانات مدمجة أيضًا.

 

 

شريف بهلول

 

 

طبيب ومترجم مستقلّ من مصر، يهتمّ بترجمة الآداب العالميّة، عن الإنجليزيّة والفرنسيّة.